السيدة نفيسة: عالمة الزهد

السيدة نفيسة: العالمة الزاهدة وريثة النبوة

في تاريخ الإسلام أسماء خالدة تنتمي إلى سلالة النبوة، سطّرت صفحات من الورع والعلم والجهاد في سبيل الله بأسلوب قلّ نظيره. ومن بين هذه الأسماء، تتربع السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، واحدة من أعلام البيت النبوي الشريف، التي اشتهرت بين العلماء والزهاد، وعُرفت بتقواها وعلمها حتى أصبحت قبلة للطلاب والمحبين في مصر وبلاد الإسلام.

وُلدت السيدة نفيسة في مدينة مكة المكرمة في عام 145 هـ، ونشأت في بيت من أطهر البيوت، بيت يزدان بشرف النسب وسمو الأخلاق. وهي حفيدة الإمام الحسن بن علي رضي الله عنهما، فجمعت المجد من طرفيه: علماً وزهداً، ونسباً وشرفاً.

النسب الشريف والمولد المبارك

ينتمي نسب السيدة نفيسة إلى بيت النبوة من جهة الإمام الحسن بن علي، وهي بذلك هاشمية قرشية من الطبقة العلوية العليا. والدها هو الحسن الأنور بن زيد الأبلج بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ووالدتها تُدعى زينب بنت الحسن بن الحسن، فتجمعت فيها أنوار العترة الطاهرة من كلا الطرفين. ويُقال إن والدها كان من العابدين الصالحين، وقد ورثت عنه روح الزهد والعلم.

وُلِدت في مكة المكرمة، وترعرعت في المدينة المنورة، في جو روحاني تغذى على العبادة والعلم، وكانت تتردد على مسجد النبي ﷺ منذ نعومة أظفارها، وتنهل من معين العلم والمعرفة من علماء الحرم النبوي وأهل البيت.

العلم والعبادة في حياة السيدة نفيسة

لم تكن السيدة نفيسة مجرد سيدة ذات نسب رفيع أو زهّادة في دنياها، بل كانت عالمة متبحرة في علوم الشريعة، ومن أفقه نساء عصرها. حفظت القرآن الكريم وهي صغيرة، وتعمقت في علوم التفسير والحديث والفقه، حتى لقّبها العلماء بـ”النفيسة العلم”.

تُروى عنها دروس علمية كانت تعقدها في المدينة المنورة، وكان يأتيها طلاب العلم من أقطار مختلفة. وقد قال عنها الإمام الشافعي: “نُقلت عن السيدة نفيسة مسائل دقيقة في الفقه، وكانت صاحبة فهم دقيق ونظر ثاقب”. كما ذُكر أنها كانت تجيب على الأسئلة الفقهية المعقدة برسائل تُكتب إليها من أماكن بعيدة.

إلى جانب علمها، عُرفت السيدة نفيسة بكثرة العبادة والنسك. يُروى أنها حجّت على قدميها ثلاثين مرة، وكانت تقوم الليل وتصوم النهار، وكان لها ختمة للقرآن كل ليلة، حتى إنها عُرفت بلقب “نفيسة الطاهرة” و”نفيسة العلم”.

انتقالها إلى مصر واستقرارها فيها

في عام 193 هـ، انتقلت السيدة نفيسة إلى مصر بصحبة زوجها إسحاق المؤتمن بن جعفر الصادق، استجابة لدعوة من أهلها ومحبيها في مصر، ولرغبة في نشر العلم والهدى في تلك البلاد. وقد استُقبلت في مصر استقبالاً عظيماً، وأصبحت بسرعة مرجعاً دينياً وروحياً، حتى إن بيوت المصريين كانت تتزين لقدومها.

استقرت السيدة نفيسة في حي كان يُعرف بـ”درب السباع”، وكان بيتها مركزاً علمياً وروحياً يجتمع فيه طلبة العلم والزهاد والنساء لنهل العلم والاستنارة بنورها.

كانت تعقد حلقات العلم والذكر، وتعلّم النساء الفقه والحديث وتحثّهن على الزهد والتقوى، وكانت باباً للناس للرجوع إلى الله، حتى أن العامة والخاصة كانوا يلجؤون إليها في أوقات الشدائد والفتن.

علاقتها مع الإمام الشافعي

من الجوانب المضيئة في حياة السيدة نفيسة، علاقتها الخاصة مع الإمام محمد بن إدريس الشافعي، مؤسس المذهب الشافعي في الفقه الإسلامي. فقد كانت تقدر الإمام الشافعي وتدعو له، وكان الشافعي بدوره يكن لها احتراماً عظيماً، ويحرص على زيارتها وأخذ العلم منها.

وعندما مرض الإمام الشافعي مرضه الأخير، أرسل إليها طالباً الدعاء، فدعت له السيدة نفيسة دعاءً عميقاً مليئاً بالخشوع والتضرع، لكنه توفي في نفس الليلة، فبكت عليه وقالت: “رحم الله الإمام الشافعي، فقد كان من الأولياء الصالحين”. ويقال إنها صلت عليه صلاة الجنازة من بيتها وهي تبكي وتدعو له.

ورعها وزهدها ومعجزاتها

زهد السيدة نفيسة لم يكن مجرد ترك لزينة الدنيا، بل كان تركاً اختيارياً يصاحبه عبادة متواصلة وخشوع دائم. كانت تصوم أغلب أيام السنة، وتختم القرآن كل يوم، وتقوم الليالي الطويلة بالصلاة والتضرع.

ومن شدة زهدها، كانت توزع ما يأتيها من عطايا على الفقراء والمحتاجين، ولا تحتفظ بشيء لليوم التالي. وقد اشتهرت بكرامات كثيرة، نقلها الثقات من العلماء، ومن ذلك شفاء المرضى بدعائها، وتفريج الكربات، ووقوع المطر بعد استسقائها.

ويُروى أن امرأة عاقر كانت تتردد عليها، ودعت لها السيدة نفيسة فأنجبت، وأخرى شُفي زوجها من مرض عضال بدعائها، وأخرى رد الله لها بصرها.

مرضها ووفاتها

في أواخر حياتها، أُصيبت السيدة نفيسة بمرض شديد أقعدها الفراش، لكن ذلك لم يمنعها من العبادة والذكر وقراءة القرآن. وحين اشتد عليها المرض، طلب الطبيب أن تُخفف من صيامها، فرفضت قائلة: “سُبحان الله! منذ ثلاثين سنة أسأل الله أن ألقاه وأنا صائمة، أفأفطر الآن؟ هذا لا يكون!”.

وقد ختمت حياتها بتلاوة القرآن الكريم، ووافتها المنية وهي تقرأ قوله تعالى: ﴿لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون﴾. وكان ذلك في شهر رمضان من عام 208 هـ.

تشييعها ودفنها

كان يوم وفاتها يوم حزن عظيم في مصر، خرجت الجموع تُشيع السيدة نفيسة في جنازة مهيبة، حضرها العلماء والأمراء والعامة. وكان الناس يبكون بحرقة لفقدانهم عالمة ووليّة من أولياء الله.

وقد أوصى زوجها بنقل جثمانها إلى المدينة المنورة لدفنها في جوار أجدادها، ولكن أهل مصر ألحّوا في دفنها في مصر، لما رأوا من بركاتها وفضلها، فاستجاب لهم، ودفنت في بيتها الذي أصبح لاحقاً مقاماً يُزار إلى اليوم في منطقة “ميدان السيدة نفيسة” بالقاهرة.

دورها التاريخي والديني والاجتماعي

تمثل السيدة نفيسة نموذجاً فريداً للمرأة المسلمة العالمة، التي جمعت بين علو النسب، وسمو العلم، وصفاء الزهد، وقوة التأثير في المجتمع. كانت مدرسة قائمة بذاتها، أخرجت أجيالاً من العلماء والفقهاء، وأسهمت في إحياء الروح الدينية في قلوب المصريين.

كما كانت مثالاً على حضور المرأة في ميدان العلم الشرعي دون أن تتخلى عن أنوثتها وحيائها، وشكلت في ذاتها جسراً بين العلم والتقوى، وبين الروحانية والاجتماع.

أبرز مناقبها في جدول

خاتمة السيرة

لم تكن السيدة نفيسة مجرد امرأة من آل البيت، بل كانت مدرسة دينية وروحية متكاملة، عاشت حياتها في خدمة العلم والدعوة، وكانت نموذجاً نادراً في تاريخ المرأة الإسلامية. لا تزال سيرتها حية في القلوب، ويظل مقامها الشريف محجاً للقلوب الباحثة عن الصفاء الروحي، ومعلماً من معالم القاهرة الإسلامية.

المراجع:

1. ابن خلكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان

2. الإمام السيوطي، حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة